
لقد عملت بتدريس مادة اللغة العربية منذ تخرجى فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، وكانت مهمة التدريس أحــب إلى نفسى مـن أى شىء سواها ، وكلما تقدمت بى العمر ، وانتقلتْ بى من حال إلى حال ، وتطورت معى العملية العلمية بعد حصولى على درجة الماجستير ثم حصولى على درجة الدكتوراه كلما ازددت عشقاً لهذه اللغة وتدريسها ، إلى الحد الذى جعلنى أنظر إليها على أن لها من القداسة مكانةً عاليةً ، وكيف لا ، وقد تنزل بها القرآن الكريم وتكلم بها خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه .
غير أنه كان يسوءنى كل الإساءة نظرة كثير من الطلاب إليها على أنه لا فائدة من دراستها ، وأن دراسة أى لغة أخرى أحق من دراسة اللغة العربية والنحو العربى الذى هو – على حد مفهومهم – كثير التعقيدات ، فلا حاجة لهم به فى حاضرهم ومستقبلهم ، كما أن اللغة العربية لا تصلح لمجارات التطورات العلمية والمكتشفات الحديثة ، متناسين فى ذلك أو قصر علمهم عما لهذه اللغة من فضل على سائر حضارات العالم ، فلم يتعلموا أن أصحاب اللغة العربية ، وعلماء العرب هم الذين سادوا العالم فى العصور الوسطى بعلومهم وفنونهم وآدابهم حين كان العالم العربى والاسلامى يمتد من الصين شرقاً الى الاندلس غرباً .
ولعل الطلاب معذورون فى ذلك ، حيث لم يجدوا مَن يحببهم فى لغتهم التى هى ليست فقط لها من القدسية مالها ، وإنما لأنها أيضا كيانهم الذى بدونه لن تستقر لهم هوية ، ويصبحون كالمعلقين ، ليسوا إلى هؤلاء وليسوا إلى هؤلاء ، ونسو ما فعل الاستعمار الفرنسى فى الجزائر وغيرها من البلاد التى تم استعمارها سواء بالمستعمر الفرنسى أو الإنجليزى او الإيطالى ، إذ كان الهم الأول للدول الاستعمارية القضاء على اللغة العربية حتى يتم لهم القضاء على الكيان العربى وتدمير الشخصية العربية ، ولكن الله مُتم نوره ولو كره الكافرون .
كان أمر هؤلاء الطلاب الكارهين للغة العربية وعلومها يؤرقنى كل الأرق ويحزننى كل الحزن ، ومازلت مهموماً بذلك الأمر حتى فتح الله علّى بفكرة كتابة النحو العربى فى أسلوب جديد مبسط وبصورة جديدة – هكذا ارتأيت – فقمت أولاً بتبسيط قواعد النحو لمنهج الصف الثانى الثانوى ، متخذاً الأشكال التوضيحية التى تبين كثيراً من التفريعات والتقسيمات ، فراق ذلك تلاميذى ، ولكننى توقفت سنوات عديدة على هذا المؤلف المتواضع ، فلم يكن فى نيتى التقدم به لأى مطبعة لطباعته ، ولكننى كنت مكتفياً بتقديمه على حلقات لطلابى كمادة سهلة طيّعة يقرأونها فيفهمون ما يقرأون بعيداً عن التعقيدات والتطويلات التى لا يجنى ابناؤنا من ورائها إلا ّ كراهيتهم للغتهم وبعدهم عنها وراضياً كل الرضا – فى الوقت نفسه – بإرضاء فئة – وإن كانت قليلة – من الطلاب عن لغتهم العربية ، واعترافهم بعظمتها وسموها .
وبعد إحالتى الى المعاش – فعلى الرغم من أننى حاصل على الدكتوراه كنت أعمل مديراً عاماً لإحدى إدارات جامعة القاهرة ، وكان التدريس عملاً إضافيا أٌقوم به – قبل إحالتى إلى المعاش – وظللت أقوم به بعد إحالتى إلى المعاش ومع توافر الوقت – بعد المعاش - وجدت الفرصة سانحة لأن اكتب جزءاً من النــحو لاحفادى – بنفس الأسلوب المبسط الذى اتخذتــه فى الجـزء الأول – تسهيلا لهم على دراسته ، فقمت بالكتابة مفرقاً بين الفعل والاسم ، والمعرب والمبنى من الأفعال والأسماء ، وأنواع الأفعال ، وأنواع الأسماء ، والحروف . ثم راقتنى الفكرة ، فلماذا لا أجعل لأحفادى مرجعاً سهلاً ميسراً فى النحو كله ، يحببهم فى دراسته ، فقمت بكتابة جزءٍ ثالث متناولا فيه المرفوعات والمنصوبات والمجرورات وغير ذلك من الأساليب و الدروس التى لم أتناولها فى الجزئين السابقين .
وبعد ذلك رأيت ان الأجزاء الثلاثة ليست مرتبة كمادة علمية منظمة ، فما حقه أن يكون فى الجزء الثالث جاء فى الجزء الأول ، وما حقه أن يكون فى الجزء الأول جاء فى الجزء الثالث ، فعمدت إالى إعادة الكتابة من الألف إلى الياء مرتباً ومجمعاً ، فخرج هذا الكتاب ، وعندئذٍ فقط راودتنى فكرة الطباعة ليكون الكتاب بين أيدى أكبر عدد ممكن من دارسى اللغة العربية ، راجيا –إن كنتُ وُفقتُ- إرضاء الله عزّوجلّ، متمنياً خدمة أبناء اللغة العربية ، حريصاً على أن يكون هذا الكتاب – بقدر المستطاع حفاظاً على اللغة العربية ، ودفاعاً عنها ضد من يتهمونها بالصعوبة والتعقيد ، وفى النهاية مُحبباً لأبنائها فيها .