قد انتقل جبران خليل جبران فى الأعوام العشرة الأخيرة من ربيع الحياة إلى صيفها، فنمت أمياله ونضجت أفكاره، وتدرجت روحه من عالم الخيال الشعرى إلى عالم أسمى وأوسع يتعانق فيه الخيال المطلق والحقيقة المجردة، وتلتقى فى جنباته أشباح العواطف الدقيقة بجبابرة المبادئ الأساسية الصحيحة.
جبران اليوم ليس بجبران الأمس، فالشباب الحساس الذى كتب «دمعة وابتسامة» بقلم محبر بالدمع قد تحول إلى رجل قوى يكتب برؤوس الحراب المغموسة بالدماء. والفرق بين مقالة «جمال الموت» وحكاية «حفار القبور» هو الفرق بين جبران الأمس وجبران، فالنفس اللطيفة التى كانت ترتعش لهبوب نسيمات السحر قد تشددت اليوم بالعزم فلم تعد تهتز إلا للعواصفن فالعواصف هى من حاضر بمقام النسيم من ماضيه.
ولكن لو تمعنا مليا بمجموع كتابات جبران وتآليفه، وعلاقتها بالنهضة الأدبية الحديثة، لوجدنا أن «لدمعة وابتسامة» مقالًا خاصًا بها لأنها كانت أول نغمة من نوعها فى العالم العربى، فقد خالفت بما فيها من التراكيب ودقة البيان كل ما جاء قبلها من الكتابات، لأنها أتت كتوطئة لحركة عربية جديدة يشعر بها ويتأثر لها الطالب فى مدرسته والمتأدب فى مكتبة والصحافى فى إدارته.
عندما ظهرت «دمعة وابتسامة» كان الكتاب والشعراء فى مصر وسوريا والمهجر يملأون الصحف والمجلات بمقالات ورسائل وقصائد عقيمة بليدة خالية من الشعور بعيدة عن القلب، وكان أكثر الناس يحسبون كل من وزن الكلام شاعرًا وكل من رتب الفقرات كاتبًا، ولكن لما ابتدأ جبران بنشر «دمعة وابتسامة» غير الناس أفكارهم وعلموا للمرة الأولى أن الشاعر الحقيقى هو الذى يضرب بأصابعه السحرية على أوتار قلوبهم، ويعيد على مسامعهم فى اليقظة ما تسمعه أرواحهم فى المنام. ومن ذلك الحين ابتدأ فتيان الكتاب والشعراء بتقليد «دمعة وابتسامة» والنسج على منوالها، فلم يمر عامان أو ثلاثة على ظهورها حتى كان لجبران تلاميذ وأتباع منتشرون فى كل مكان من العالم العربى.