
الحمد لله ذو الفضل والمنَّة والصلاة والسلام على النبي الأمي المبعوث بالهدى والسنة وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد ،،،
فلمدرسة الأشاعرة الأثر الكبير في إثراء الفكر الإسلامي وتوجيهه، ولم يكن هذا بالأمر العارض، فقداستمر فكر هذه المدرسة بأعلامها البارزين على امتداد عصور ازدهار الحضارة الإسلامية وما بعدها، وصارت ممثلة لفكر غالبية أهل السنة من المسلمين ومعبرة عن أعمق تصوراتهم لما يجب أن يكون عليه الفهم السني للإيمان وعلاقة العقل بالدين، محاولة المرة تلو المرة إعادة بناء الفكر وتطويع مناهجه بما يتلاءم مع روح الإسلام الخالص، ولعل القيمة الكبرى لهذه المدرسة تتمثل في موقفها النقدي من مختلف التيارات الفكرية التي كانت سائدة والتي عبرت عن نفسها باسم الإسلام.
وإذ تهتم مدرسة الأشاعرة بهذه التناقضات والمذاهب فإنها لا تقصد إلى اعتناق التلفيق منهجاً ولا إلى الجمع بين المتنافرات ولكنها تجاهد أن تعلو فوق اتجاهات جانبت الصواب منهجاً وموضوعاً متجاوزة ذلك كله إلى محاولة الكشف عن روح الإسلام ووسطية الفكر الإسلامي واعتداله.
وللأشاعرة في الولاء للعقل نصيب كبير يميزهم عن بقية السلف تمييزاً واضحاً، فقد أعلن الأشعري ومن تبعه أن العقل وحده لا تكون له الكلمة الأخيرة في أمور العقيدة والشريعة، وإنما يكون في ذلك تابعاً للنقل ومسترشداً به، ثم إن هذا العقل المؤمن هو المدافع عن العقائد الإيمانية بالأدلة والحجج، وبذلك سلك الأشاعرة طريقاً وسطاً في الجمع بين الدين والعقل.
ولكل ما ذكرناه ونظراً للأهمية التي تحتلها فرقة الأشاعرة في سلم الفكر الإسلامي وبخاصة في تميز موقفها من العقل كان اختيارنا لهذه الفرقة لتكون موضوع دراستنا والتي نهدف من خلالها إلى عرض آراء هذه الفرقة في نسق متكامل خاصة من خلال النموذجين اللذين اخترناهما في هذا الموضوع، وهما أبو الحسن الأشعري وأبو حامد الغزالي مستهدفين إبراز دور العقل ومكانته وعلاقته بالشرع عندها، وكذلك نهدف من خلال هذا العرض إلى وصّل الماضي بالحاضر إذ أن من أسباب تدهور الفكر الإسلامي الحديث انقطاع صلة المسلمين اليوم بماضيهم، وشعور الباحث المعاصر بنوع من الغربة اتجاه السابقين مع أن تراثنا يتعلق بأصول الدين الحي في قلوبنا وتهدف هذه الدراسة أيضاً إلى التركيز على المنهج الذي اتبعته فرقة الأشاعرة والمتمثل في "الوسطية" وهي المواءمة بين الواقعية والمثالية بين العقل والنقل بين الروح والمادة، وهذا أمر له أهميته خاصة وأن أكثر الجدل الذي يثيره أعداء الإسلام حول ديننا يتركز حول مكانة العقل في الدين الإسلامي، وبالإضافة إلى ما ذكرناه نعتقد أننا في أمس الحاجة إلى بيان هذه الوسطية وإظهار هذه المكانة للعقل في الدين الإسلامي وبخاصة في عصرنا الحاضر التي طغت فيه المادة على الروح.
تساؤلات الدراسة:
تتمحور الدراسة على النحو المقترح في تساؤلات عدة تدفع الباحث إلى محاولة الإجابة عنها من خلال الفكر الأشعري، وهذا عرض بعضها:
إلى غير ذلك من الأسئلة التي يمكن طرحها والإجابة عنها أثناء معايشة الموضوع رهن الدراسة.
الدراسات السابقة:
مما لا شك فيه أن هناك دراسات عديدة سابقة حول مفهوم العقل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، دراسة الباحث امحمد سالم الغول والتي تحمل عنوان: مفهوم العقل وتأثير وسائل الاتصال والإعلام على العقل العربي، وكذلك دراسة الباحث أحمد عيسى سعيد الكردي والتي تحمل عنوان الدين والعقل في مواجهة الاستشراق فكلتا الدراستين تناولتا مفهوم العقل عبر العصور، ونحن نتفق معهم في ذلك إلاّ أنه لا توجد دراسة مستفيضة اتجهت إليها رسائلنا في جامعاتنا الليبية (حسب اطلاعي) حول مفهوم العقل في الفكر الأشعري، فهذه الدراسة هي الأولى من نوعها.
منهج البحث ومحتويات الدراسة:
اعتمدت في دراستي هذه على المنهج التحليلي الذي يتم من خلاله طرح الآراء وعرض الأفكار مع التسلسل المنطقي والالتزام بالموضوعية، بالإضافة إلى المنهج المقارن والذي يسمح لنا بمقابلة الآراء بعضها ببعض، وقد اشتملت خطة البحث بعد المقدمة على التمهيد الذي كان تحت عنوان: مفهوم العقل لغة واصطلاحاً،هذا الفصل يهتم بتحديد ماهية العقل على اعتبار أن تحديد المفاهيم يشكل غاية الدراسات الحديثة والمعاصرة بغية الوصول إلى الموضوعية التي يتوخاها الباحث في بحثه، حيث تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن كثيراً من الإشكاليات التي تثيرها الدراسات ولا تجد السبيل إلى تحديدها، يرجع بالدرجة الأولى إلى عدم وضوح المفاهيم قيد الدراسة لاسيما وأن وضوح المفاهيم يلعب دوراً بارزاً في تحديد الفهم عند المتلقي؛ ولذلك اقتصرت في الفصل التمهيدي على محاولة تحديد مفهوم العقل عبر العصور، ثم قمتُ بإعطاء نبذة مختصرة عن شخصيات البحث وهما أبو الحسن الأشعري وأبو حامد الغزالي، باعتبار أن الأول هو مؤسس المذهب الأشعري، والثاني هو الذي اكتملت على يديه مدرسة الأشاعرة.
أما الفصل الأول فيهتم بالتعريف بعلم الكلام باعتبار أن فرقة الأشاعرة إحدى الفرق الكلامية التي كان لها دور كبير في الفكر الإسلامي.
بينما يهتم الفصل الثاني بدراسة الأصول العقدية للمذهب والتي تتمثل في خمسة عشر أصلاً، تلك الأصول التي سنتبين من خلالها أمرين وهما إلى أي مدى كان هؤلاء متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله، ثم محاولة التركيز على دور العقل عند الفكر الأشعري، ثم قمنا بالحديث عن الأسس الفكرية للمذهب الأشعري والتي تتمثل في مسألة كلام الله ومسألة التحسين والتقبيح.
ثم جاء الفصل الثالث والذي يحمل عنوان "موضوعات النظر العقلي في الإلهيات، ومن خلاله تطرقنا إلى الحديث عن وجود الله وأدلته، ثم صفاته، ثم مسألة جواز رؤية الله، ثم مسألة العلم الإلهي، ثم مسألة وجود العالم بين الحدوث والقدم، ثم مسألة السببية ثم حرية الإرادة وأخيراً مسألة البعث والمعاد، واعتمدنا في هذا الفصل على المنهج المقارن والذي من خلاله يسمح لنا بمقابلة الآراء بين المعتزلة والأشاعرة من أجل معرفة أوجه التشابه والتباين بين فرقة المعتزلة والأشاعرة. ثم جاء الفصل الرابع والذي يحمل عنوان تأسيس العقل النظري، واهتم هذا الفصل ببيان الوسطية في المذهب الأشعري، ثم توضيح كيفية هداية العقل النظري حتى يصير متديناً، ثم المنهج في النظر العقلي وفقاً للشريعة الإسلامية وبيان حدود العقل، في نظره في الأشياء وأخيراً علاقة العقل بالنقل، وكيف تكون هذه العلاقة وفقاً لما تم طرحه من آراء للأشاعرة، وفي النهاية جاءت الخاتمة والتي احتوت على أهم النتائج التي حققها البحث في إيجاز مختصر ثم الفهارس والمراجع.
ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أشكر الله عز وجل على ما يسَّر لي وأعانني على إتمامه، وأشكر كل من قدم لي العون وأمدني بمساعدة وأعتذر عمّا وقعت فيه من تقصير.